dimanche 27 décembre 2009

اعمال الفلوجة للفنان العراقي اياد الجلبي


بقلم نزار شقرون
تجربة الفنّان إيّاد الجلبي فقد توزّعت على مظهرين مختلفين في مسار مواجهة الواقع العراقي الدّامي. يعدّ الفنّان إيّاد واحدا من الفنّانين العراقيّين الذين ربطوا لمسة الفرشاة بالعذاب الإنساني، فجاءت أعماله من "لوحات نويل" إلى "لوحات الفلّوجة" ممعنة في وشم الذّاكرة العربيّة، ذاكرة موشومة لم تستطع القنابل أو طائرات ب52 أن تمحي آليّاتها أو أن تحقنها بالصّمت الرّهيب، فحين واجهت بغداد وحدتها الأبديّة أمام قصف كوني تشظّى الوجه الآدمي وأصبحت الهويّات المفردة غير ممكنة التّحديد. كانت القواسم المشتركة لهذه الهويّة تفضي إلى وحدة التّبعثر والهلاك والفزع. استمال الوجه إلى صرخة مدوّية، كذلك هو في أعمال شلبي، توافق عميق مع مأسويّة الحدث والحالة والواقعة المستميتة في الحضور. وإذا كان فنّ البورتريه هو تجلّ لملامح الوجه فإنّ مقاربة الفنّان لهذا المظهر الفنّي تميّزت بالمغايرة. لقد استعمل إيّاد شلبي فرشاته بلمسات سريعة أكّدت حضور الحركة إذ لا يمكن أن يُسعف الوجه في ظلّ تهاطل القذائف، فديناميّة اللّون تتناغم مع طريقة التّصدّي لارتعاشة اليد التي ترصّف الألوان فوق بعضها دون اكتراث لأيّ مواجهة مع حدود الوجه المعلومة لأنّ الملامح تختفي كلّما انهمرت الألوان، ويبدو من الشّاق جدّا تبيّن سمات العينين والأنف والفم وهناك كثافة لونيّة خضراء، صفراء فاقعة وحمراء تمنع الوضوح، بل هناك طمس للوجه، هو طمس الواقع له، لأنّ الوجه يريد أن يتجلّى رغم هيمنة الألوان. وتبدو الحركة إذن صراعا حادّا بين رغبة الوجه في الانكشاف وسلطة الواقع/الفعل الدّموي في نسف الوجه. حينذاك لا يكون الوجه غير انتماء موجز للشّهداء الذين عبروا سماء بغداد دون تردّد.
تأخذ وجوه شلبي محور اللّوحة، القداسة دائما تفترض المحور من الأيقونة إلى البورتريه، المحور منذور لهيمنة الوجه منذ القديم. لكنّه يأتي في شكل شظايا، فاللّوحة تنقسم إلى هذين الحيّزين، حيّز الوجه وحيّز الفضاء الأزرق الممتدّ. الفراغ الشّاهد على امتلاء مقبور وحضور مغيوب. لكنّ الوجه ليس منفردا، ثمّة اشتعال لأشجار"نويل" التي تشتعل بهذه الوجوه. الشّجرة لدى إيّاد شلبي، أصلها في الأرض الجريحة بأنفاس الكائنات من الأطفال والشّيوخ والنّساء وفرعها سمات لم تعد لها أسماء. إنّ التّشوّه الذي لحق بالوجه البشري ليس مأتاه الواقع المرجعي فحسب بل إنّ الاختيار الجمالي هدف بدوره إحلال هذه المزاوجة بين البعد الشّخصي والبعد التّجريدي، فالأعمال تتردّد بين هذين البعدين وفيهما مشاكسة للواقع، كما أنّ الفنّان يبوح بهذه العلاقة الوطيدة التي تجمع بين الفنّ وبين القضيّة، دون ابتذاليّة، أليست قضيّة الفنّان هي الإنسان؟
لذلك نراه يتعمّد منذ سنوات تمتين هذا المبحث الفنّي فانتهى به إلى أعمال جديدة غابت فيها الألوان لتظهر الدّرجة الحياديّة كاستنكار للحياديّة المغرضة التي يتموقع فيها المشاهد إزاء ما يحدث في العراق. فاتّخذ الجلبي من أحداث الفلّوجة فضاء رمزيّا للتّعبير والتّكوين، فتغيب الألوان وينقشع الزّيت ليتوسّل بالإكريليك وينسف بالأبيض والأسود منطقة الصّمت العالمي. تكون اللّوحة فضاء للوجود ولكنّها في سلسلة أعماله الأخيرة كون مظلم يشهد تفجّر الوجود، ولا يكون الوجود غير استفحال لانفجار ما، يأخذ شكلا مبهما في آونة التّلقّي الأولى إلاّ أنه سرعان ما يهب المشاهد بعضا من تشكّلاته، يقطع الفنّان مع الفعل التّشخيصي، إنّه يواجه تجريديّة صاخبة تخرج عن التّبقيع لتتّصل أكثر بحركة اليد وهو تتجرّأ على سواد الفضاء تدمغه بضربات سريعة ودقيقة، تتشاكل مع المرجع الواقعي لا في تصويريّته ولكن في عنف حركته. إنّ هذا الواقع بلغ منزلة اللاّتحدّد حيث يكون أقصى من المتصوّر، من الكابوس أصلا، كيف يمكن تمثيل ما هو أقصى من الكابوس، اللّعنة نفسها كيف يمكن تمثيلها؟ يتمّ استدعاء الأبيض لا ليكون حياديّا ، إنّه في أعمال الجلبي منحاز، ولكن مع من؟ وضدّ من؟ أوّلا هو منحاز ضدّ اللّونيّة الطّافحة التي عرفتها تجربته الفنّيّة ، وهو منحاز ثانيا ضدّ أصليّته كدرجة مضيئة فحسب ، وهو منحاز ثالثا ضدّ الواقع : سواد الصّمت.
يتجرّأ الفنّان على دمج حركة اليد مع فضاعة المرجع الواقعي ليهب النّور، وليمنح الشّكل حضوره الأقصى فالشّيء مثلما يبيّن موليم العروسي" لا يكتسب أهمّيّته إلاّ بقيمة الضّوء المسلّط عليه، ذلك أنّ الأحجام لا تظهر، سواء أكان ذلك في الطّبيعة أم في الفنّ، إلاّ بوجود الضّوء. وإذا أراد الفنّان تمثيل منظر معيّن، مهما تكن المادّة التي يعتمد عليها، فإنّ الضّوء يلعب دورا هامّا في إبراز الكتل والأشكال. وهكذا يظهر النّور وكأنّ له سلطة مطلقة"
ولكن ماذا يضيء الجلبي، وقائع الفلّوجة؟ يضيئ الألم باكتساح النّور لأغلب حيّزات الفضاء لتتجلّى أشكال تبتهج في ظاهرها بالفوضى العارمة ولكنّها ليست فوضى، إنّها مخادعة ، فهذا النّوع من المعالجة الفنّيّة يفترض التّمهّل في القراءة، سنرى علامات هندسيّة وخطوطا متشابكة ومتقاطعة، سنرى ما يشبه تبرعم الأوراق، خطوط راحة الورقة الطّبيعيّة وكأنّها خطوط قدريّة اليد المقهورة ، فالطّبيعة نفسها تتفجّر ، تتلوّى ، يعني ذلك أنّ الأرض وما عليها في غضب، تأخذ الأشكال بعد "الأثر"، فعلا إنّ ما يسعى إليه الفنّان هو أثر الحدث وليس الحدث ذاته، إنّه أثر الشّكل وليس الشّكل، أثر المعنى وليس المعنى. ولكن أين الإنسان؟ هل يغيب تماما بعد أن كان حاضرا في الأعمال السّابقة؟
سنرى بعضا من تفصيلات الوجوه تكاد لا تظهر، هي مشوّشة وقد تكون مشوّهة، مصدومة بزلزال يشبه الانفجار الأوّل، لكنّ هذه الأشكال لا تولد بين الظّلام ، بل تولد أيضا في رحم رماديّ لكأنّ التّفجّر يقود الكون إلى انبجاسة البياض من جديد. وتبدو تفجّرات الأشكال متّشحة بالسّواد، فحركة التّشكيل لا تغفل حضور الأسود في مختلف أجزائها، أي أنّ الحركة في الفضاء المبيضّ لا تخلو من صراع بين النّور والظّلمة، هو التّضادّ الأقصى الذي يقوّي درجة الإيحاء في خطّيّات ممتزجة بالرّغبة في التّشكيل حيث تبرز يد الفنّان الغرافيكي الذي يحتفي بالخطّيّات في فضاء الورقة. ويينع في العمل الواحد منزعان في الفنّ :الرّسم والغرافيك، وهما بالطّبع وجهان لشخصيّة الفنّان الجلبي.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire